top of page
Search

نصير شمّه الملحن عازف العود الأول وجائزة الرواية الألمانية


منذ أيام أثناء مهرجان موسيقى الجاز الذي أقيم برعاية الجامعة الأمريكية بمصر استمعت لتجربة جديدة يخوضها الفنان نصير شمة عازف العود العراقي مع فرقة أجنبية لموسيقى الجاز ، مجموعة من العازفين الأوربيين تختلف جنسياتهم لكنً إقامتهم ونشاطهم الدائم بدولة الدنمارك ، نوع من التجريب بين تداخل و دمج حواري للعود العربي بأوتاره الشجية الهادئة مع موسيقى الجاز الصاخبة ، تخوفت في بداية الحفل لعدم تخصصي بفن الموسيقى وتقنياتها ، توقعت أن تضيع أنغام صوت العود وسط هذا الصخب الذي تحدثه آلات النفخ النحاسية والدرامز ، ومع أول الفقرات بدأت أستشعر أن هناك نوعا من التداخل الجميل الذي لا يطغى فيه نوع من الأنغام والأصوات على الآخر ، هناك وجود محدد للعود وصوته الشجي ، شخصية واضحة وقوية حاضرة لنغماته وإيقاعات تتعدد دلالاتها ، بل الأكثر من هذا أنه يؤلف من خلاله - وسط هذا الدمج مع الآلات الأخرى - موسيقى تنقل متلقيها لعالم من التصوف الذي تتعالى فيه المشاعر وكأنها ترتقي مقامات ومدارج لتشف متسامية تصوغ نجواها للكون . وجود بارز للعود يلمسه المتلقي يقود ويجذب نوعا آخر من الإيقاعات الصوتية يأخذ منها ويعطيها ، لا تضيع نغمات العود الخاصة ولا نوع ما يستولده من مشاعر تمتلك هويتها و ذائقتها الشرقية ، بل يزيد تطلعها إلى عالم أكثر تجردا واتحادا مع كيان الوجود ككل ، تتناغم معه نبرة أكثر ارتفاعا للآلات الأخرى أو ما يسمى بالموسيقى المعدنية وآلات النفخ لكن المؤلف الموسيقي استطاع أن يوجد هارموني بين الجميع ليخلق كيانا موسيقيا متجددا وله تميزه . نجح نصير شمة في خلق هذا الكونتراست في ظني من خلال التوزيع الجيد بين الآلات الموسيقية بوعيه بخصوصية إمكانات كل منها، وإدراكه لقدراتها، ثم توظيف تلك الطاقات مع خصوصية العود ، كما برز أيضا قدرة التحكم بدرجة قوة صوت العود من خلال استخدام تكنولوجيا أجهزة الصوت الحديثة بحيث لا تطغى عليه أصوات الآلات الصاخبة . يُذكر أن كمال الطويل كان من أوائل الملحنين الذين أدخلوا آلات النفخ النحاسي في الألحان الشرقية في أحد ألحانه لعبد الحليم منذ الستينيات ، واليوم يطور نصير شمة هذه التجربة بتأليفه لمقطوعات كاملة تُشيًد على هذا التداخل والدمج لشخصيات الآلات ونغماتها . مع توالي المقطوعات التي ألفها شمة بالحفل وقام بتوزيعها قائد الأوركسترا الدنماركي شعرت أن بإمكان الموسيقى أن تحقق حوار الحضارات بطريقة سلسة راقية فشلت في تحقيقها السلطات والمؤسسات الأخرى بأنواعها ، فرغم اختلاف الشعوب والجنسيات واختلاف طبيعة آلات موسيقاهم ، وتباين أشكالها وأصواتها ، وطرق تعبيرها عن ذاتها وهويتها ، لكن يبقى لجميعها اشتراكها في الإنسانية الرحبة المتعددة دون أن يتنازل طرف منها عن سمته و خصائصه المميزة التي تحفظ له هويته ، ودون أن تطغى خصائص وطبيعة ثقافة ما . تجربة تحقق نوعا من التحديث والتطور لكلا النوعين من الموسيقى ، وتخلق حوارا راقيا بين الثقافات عبر أنواع الموسيقى. في حوار مع صاحب "بيت العود العربي" بعد الحفل سألته ألم تتخوف من هذه التجربة ، كان من الممكن أن يضيع صوت العود وسط أصوات هذه الآلات عالية الإيقاع ؟ فإذا به يسألني : "هل شعرت بضياعه ؟!! من يتملكه الخوف لن يصنع شيئا. وأضاف بالمران والإرادة والخبرة يستطيع الإنسان أن يصنع الكثير ، كما أن التدريبات المكثفة التي بدأتها مع هذه الفرقة الأوربية واحترامهم لكل ما يؤدونه أنضجت التجربة وجعلت لها فرادة خاصة , ويؤكد أن ما يميز الأوربي احترامه لمفهوم العمل والتزامه بكل ما يتعلق به ". نفس هذه الإجابة المران الطويل والإرادة كانت إجابته عن فقرة منفردة أداها على العود وهو لا يستخدم اليد التي تمسك بالريشة التي تحرك الأوتار ، عزف محتضنا العود بأصابع يد واحدة ، وطوعه لهذا الأداء ، وحين سُئل عن أدائه لهذه الفقرة نمّت إجابته عن جانب إنساني شفيف ينبئ عن روح عذبة تدرك عذابات البشر فيما حولها، وتطوع من أجلها الجمادات والقيم والمشاعر والقدرات البشرية ، فحكي أن مدرسته كانت تضم أحد الهواة للعود وعاشقى عزفه وبعد شهور من التدريب لديه اُستدعي هذا الطالب للحرب وغاب لفترة ليفاجأ به في إحدى الحفلات وهو يسلم عليه بيده اليسري، ويعرف شمة أن تلميذه فقد اليمنى في الحرب ، يذكر أنه ظل لأكثر من ثلاثة أشهر معتكفا يدرب يدا واحدة لتعزف على العود ، يقول : أنه وجد مجهودا وعنتا في أن يستقيم الصوت ويخرج من تجويف آلته المحببة ، لكن الإصرار ورغبته في أن يسعد تلميذه الذي يعشق العود كانت وراء نجاحه في أن يطوع هذه المهارة الخاصة ليعوضه فقد يده بالحرب، وأن يخرج الصوت بهذا الشكل اللائق رغم أن المسافة بين أوتار العود الخمسة ضيقة للغاية ويجد العازف صعوبة شديدة ليتحكم بأصابعه في النغم واختلافه ، فضلا عن خروج صوت واضح. المتأمل في مسيرة الفنان نصير الشمة يجد أنه يحيا يتنفس ويؤمن ويحارب بالموسيقى ، يحب ويكره بها، الموسيقى وسيلته ليدافع عن معتقده ورسالته، عن شطحاته الصوفية والفكرية ، يستقبل العالم من حوله بالموسيقى ، فهي وجوده : عنفوانه ، ولحظات هزيمته ، بها تتردد أنفاسه بهذه الحياة . يدرس العود وبعد فترة يتجاوز معشوقه كونه آلة تعبر أنغامها عن وجوده بل يطوره