بين العفوية والخبرة كنت أنظر إلى لوحات تشكيلية رسمتها أصابع مجموعة من الأطفال، معروضة في قاعة المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة، وكان رئيسه وقتها جابر عصفور.
وقفت مشدوها أمام ما لونته الطفولة أو ما أبدعته من خطوط وألوان، العفوية أول صفة تخطر ببالنا جميعا ونحن ننظر إلى لوحة طفل، الخط الذي لا يأتي مدروسا وقد لا يشي بحرفية، اللون الذي يأتي غريبا كشجرة برتقالية مثلا، أو كبحر أخضر، أو عصفور بنصف جناح، كلها أشياء قد توحي بالعفوية، ولكنها ببساطتها تستطيع أن تنافس أحيانا رسوما لفنانين كبار. الفنان العالمي ميرو كان يرسم بعفوية طفل امتلك خبرة الكبار، ظلّ متمسكا بعفوية طائر يحلق أعلى من الشمس ولا تمسه نارها. خبرة طفولة، أو عفوية طفولة، لكنها في كل الأحوال كانت تشي لمن يرى اللوحة من دون أن ينتبه لاسم صاحبها أن طفلا مبدعا ذا عين نافذة هو من قام برسمها.
العفوية قد أصفها أنا ومن وجهة نظري حاسة تضاف إلى الحواس الإنسانية الخمس، فهي حاسة تتلمس بنقاء شديد العالم المحيط بها، حاسة تستكشف الأشياء، كما يستكشف لسان المذاق، أو كما تلتقط العين لوناً ما، ولكنها أيضا حاسة يمكن أن تُفقد ببساطة إذا اختبرت تمرّس الكبار وحنكتهم، أو إذا غادرت طفولتها كلية. يقول بيكاسو أثناء مشاهدته لمعرض رسم للأطفال: لقد قضيت خمسين عاما من عمري لكي أرسم مثلهم. خمسون عاما إذن قضاها بيكاسو ليعود إلى الطفل فيه، إلى بداياته وخطوطه العفوية التي كانت تخرج منه بلا دربة ولا خبرة، ولكن أيضا بإبداع الطفل الذي فيه. لهذا ربما اؤكد أن العفوية واحدة من الحواس، وعلينا أن نتدرب عليها كي لا نفقدها، ومع أننا في حياتنا اليومية كأشخاص نلتقي بأناس يدخلون قلوبنا فورا ونصفهم بالعفويين، على الرغم من هذا نجد أغلبنا يتخلى عن عفويته التي قد نجد من يعيبها أيضا. العفوية في الفن عموما، وليس في الفن التشكيلي فقط ضرورية لأنها تأتي من دون رتوش، تخرج كحالة بكر موازية لتفتح وردة من برعمها، حيث لا يشابهها جمال في هذه اللحظة. عندما شاهدت في إحدى زياراتي للمغرب رسوم الفنانة المغربية العالمية شعيبية فكرت لأول لحظة أن الرسام طفلة أو طفل لم يتجاوز العشر سنوات من العمر، كان أول انطباع شعرت به هو عفوية وفطرية تلعب ببساطة متناهية فتخرج بشكل فني مبدع ولافت، وعندما سألت صديقا كان معي، أخبرني، أنها سيدة قد تكون ربة منزل لا أكثر، لكنها عفوية بشكل كبير، والطفل الذي فيها لم ينتبه لمرور السنوات على جسدها وظل يستفز فيها اللعب. في الموسيقى وسائر الفنون الأخرى الأمر لا يختلف، فالعفوية تتمتع بروح أخاذة بوسعها التقاط ما لا تستطيع الخبرة التقاطه، كأن ترسم عبر النغم حديقة أطفال أو ضحكهم، فليست خبرة الكبار دائما مستحبة عندما لا تساندها الطفولة المشاكسة. الطفولة بحاجة لتدريب في الداخل الإنساني، وفقدانها سهل خصوصا في عالم تزداد فيه البشاعة التي يصنعها كبار متدربون فقدوا من دواخلهم الطفولة بكل ما فيها من عفوية ومشاكسة، فليس من طفل يشاكس بقنبلة ولا بقتل. موزارت أضاء الموسيقى الكلاسيكية، ومثل حين ظهوره هذا الطفل المشاكس الحر، على الرغم من قيود الكلاسيك وجديته، خرج موزارت إلى العالم بروح الطفل المتألق، لدرجة أن روحه تلك أبهرت مجايليه من الموسيقيين، كما أربكت من جاء من بعده، لدرجة أن سؤالا كان يلح على المهتمين بموسيقاه، من أين تأتي كل هذه الموسيقى؟ كانت حقيقة الموسيقى تتدفق عليه كشلال لا ينضب من أفكار مشاكسة وألعاب موسيقية مبدعة جعلته حتى اليوم والغد واحدا من أهم موسيقيي العالم.
من يمتلك ثنائية الخبرة والطفولة معا يمتلك العالم، فالطفولة تستطيع حتى على صعيد الحياة الروحية أن تجدد خلايا الكون، وتضحك حينما يكون العالم أمام جرعة بكاء مرة، هذا التجديد يحتاجه المبدع، لأنه يمنحه القدرة على خلق خارج الموت حينما يكون الموت هو الخريطة التي تحدد المسارات، وبالتالي يصبح إبداعه جرعة من مهدئ شفيف الإدمان عليه لا يؤذي بل على العكس يمنح طاقة جديدة للاستمرار. لكن هل تستطيع العفوية والطفولة والفطرة أن تصبح أدوات أسلوبية في أيدي المبدعين؟ هل من الممكن أن تتحول إلى نهج خاص، وهل من الممكن أن تقتلها الدراية والخبرة؟ وهل من الممكن أن تكون الثقافة نفسها أداة تدمير للطفل المشاكس الذي فينا؟ بعض أسئلة تطرح نفسها بقوة وإلحاح عليّ، فالطفولة تعنيني كثيرا، أنا الذي لا أشعر بمرور السنوات الا عندما اشعر بخذلان العالم، أنا أيضا الذي طالما اكتشفت العالم وأنا أقص الحكايات على ابنتي قبل أن تنام، حكايات التنين الذي كلما فتح فمه خرجت الموسيقى وكأنها أوركسترا من مئة عازف مبدع أو أكثر. ذلك التنين الذي نتصارع به، ففي حين يمتلك الساسة تنينا كلما فتح فمه خرجت نار حارقة، ننحو نحن إلى ذلك التنين الموسيقي.
المصدر: القدس العربي