top of page
Search
  • Admin

"نصير شمّه " رجل معتق بالتاريخ ملبد بالموسيقى

في شرنقة الغياب يبدع، ينسج وقتا ملبدا بالفرح والموسيقى، يوزع "هناءاته" الحالمة على من يزوره، يتكاثف الضوء في العود المنسجم مع الخيال في ليل يشبه أحلام الملائكة، يجمع النجوم في إلهامه ليوزعها تحية على الشرفات السعيدة، يسترخي اللحن المموج كشعر غجرية على زجاج الشمس المشعة بالقبل، تتذكر أراجيح الطفولة تتعانق مع براءة المكان، يتماوج الحنين مع الحزن ليخرج معجزة يتباهى بها عرافو الخريف، تنتظر اللحن كوعل ينتظر القمر، يحمل سماءه وشاطئه الحزين المتلبد بالموسيقى، تتوهج ألحانه حمراء كقرنفل، كلمعة ضوء كريستال في قصر، كتمخطر قوس كمنجة، كضحكة مفاتيح البيانو، كحكمة طليقة فرت من متعبد، كل معنى يكتبه، كل ريح طائشة تلهمه، يجادله الضوء، فيقابله بصمت التلاشي، موسيقى نصير مفخخة بالعطش، تظل في حاجة إليها رغم ارتوائك، تقلب لك صفحات الوداد والحب، تهز سرير اللحن، تشرب المساء مسرة، ترتوي بها حتى النخاع، حتى حدود العتمة.

تدخل مكتبه المتموج في الجمال، وكأنك تدخل إلى قصر من ألف ليلة وليلة، حقبة من حقب التاريخ، بيت حكمة، سحر ضوء، طلاقة فرح، رائحة المكان كزهرة الأغباش، تعانقك بهجة المكان بعنفوانه الراقص، تبقى أنت والوتر وسرور العين في أحراش لا متناهية من السفر البعيد، كل شيء في مكتبه معتق بالذكرى، كل مساء تخرج أصوات من رحلوا في انسجام مع الموسيقى، كل قطعة لها معنى عميق كجذور السنديان، محشوة بالإصغاء، فالكرسي الذي تجلس عليه عمره ثمانون عاما، كان أحد العلماء يكتب علمه أثناء جلوسه عليه، أما الطاولة التي أمامك فعمرها قد تجاوز الخمسين عاما أيضا، وفي إحدى الزوايا تقف مكتبة صغيرة بأرففها العتيقة في شموخ عجيب، عمرها مئات السنين، ربما كانت لملك أفل نجمه باكرا، في مكتب نصير تحس بأنك تجلس في حضرة ملك وهيبة عالم ودلال أميرة وفرحة قصر، في مكتبه تشعر بالدفء والحنان والتواضع، تشعر وكأنك تلبست بالرقي في قممه الشامخة.

تحيط بك اللوحات الفنية التي رسمتها أنامل نصير الذهبية كالغابات الخضراء في الربيع، تدخلك هي الأخرى في عالم حالم بالمسرات وألوان الفرح، لوحات تحاكي الجانب المشرق في حياتك، تنسجم مع براءتك، تقف مذهولا أمامها كعلامة تعجب، أنامل نصير تلامس الفرشاة في تناغم السكون فينطلق الضوء في مساءاته الحالمة، ويأتي الحلم باكرا، تظل تحدق في اللوحات التي أتت كغابة بنفسج في يوم ماطر. تأخذك النسمات الحنونة إلى الشرفة، شرفة نصير ليست كأي شرفة في العالم، فشرفته تقابل شرفة قصر الملك محمد علي باشا ومن بعده من الملوك الذين حكموا مصر وحاولوا أن يجعلوها قطعة من الجنة، وهذا ما نراه الآن من بقايا المباني القديمة في ذلك الزمن الجميل، شامخة برقيها وجمالها، يتيمة وحيدة ينكسر الحزن أمام أبوابها وسط المباني العشوائية التي أتت بعد الثورة، وكأن الثورات تخلوا من الجمال، الملوك في قصرهم المنيف تطل شرفاتهم في تعامد وانسجام رائع مع شرفة مكتب نصير، ملك يجاور ملكاً، أمير يعزف لأمير، كل يعزف على هوى منفرد في رقيه ودلاله الذي سرعان ما يلتقي في نقطة الرقي والتحضر، يطلق نصير أيائل موسيقاه الحالمة لتخترق القصر ومسمع الملوك والأميرات، تلك الموسيقى التي احتضنتها قصورهم لقرون خلت، يسعدون بها في حفلات الفرح الراقص على أهداب الوتر، نصير يعزف كل مساء بينما الملوك غارقون في صمتهم الأبدي، يستحضرون ليالي الوتر ومرح اللحظة كلما هطل نصير بعزفه كالمطر على أيامهم اليابسة كالياسمين، نصير شمه نغم الجمال في أطيافه المشبعة بعطر الورد وبهجة الأخضر.

الكاتبة: عزيزة راشد - صحيفة الشبيبة

bottom of page