top of page
Search

الحوار الأجمل

كما يحاور الحرف نظيره، تحاور الموسيقى نظائرها، وفي حوار الموسيقى ليست هناك لغة موحدة، بل تجانس يجعل من «الميلودي» ألوانا تتقارب وتنجدل وتجدد بعضها بعضا، من خلال عملية أشبه ما تكون بتلك الوردة التي تأتي من بذرتين مختلفتين.

وردة الموسيقى غالبا ما تكون أكثر حيوية، ففي حوار الموسيقى يحاول كل موسيقي أن يُناغم وإلى حد ما «يبارز» وينشغل بخلق خط تفاهم عميق مع الموسيقى الأخرى. في حوار الموسيقى، خصوصا عندما يكون حوارا قائما على إرث موسيقي مختلف، يحاول الموسيقي أن يجد الدرب بين إرثين، موازنا بين حالته خلال العزف وانتقالاته ومرونة تعامله مع آلته ومنتبها بدقة إلى الميلودي أو الخط الرئيسي للحوار، تماما مثلما نحاور في الكلام، في الموسيقى أيضا فكرة رئيسية تجمع المتحاورين ضمن تجانس روحي. التجانس في الحوار مهم جدا لأي عازف، وروح العازف يجب أن تكون روحا مرنة «ملتهبة» قادرة على المجاراة، ومن ثم سحب النغمة نحو صاحبها وردها من جديد بطريقة قد تشبه أحيانا لاعبي تنس يركزان على محور الملعب، وكلما حاول لاعب رمي الريشة أبعد يلتقطها الآخر، هذا تماما ما يشبه الحالة التي يجب أن يكون عليها العازف وهو يحاور، لا يسمح بريشة أو كرة خارج إطار الملعب ويتنقل بحيوية تامة ليأخذ ويعطي، ولا يجعل نغمة واحدة تذهب سدى من غير أن يلتقطها ويردها. المحاور في الموسيقى يبدو كأنه لاعب تنس بارع، مراوغ لكنه يستلم وُيسلّم ويعرف تماما أن الحوار يحتاج إلى لياقة عالية في التحرك، ليس بين السلالم الموسيقية وحسب، بل أيضا بين قوالب مختلفة. كعازف عود آتٍ من شرق غني بموسيقاه، حضارات متتالية ومختلفة جمعت ثمارها كلها في موسيقى لها لونها وأسلوبها وروحها.

تربيت في كل مدارس الشرق الغنية، وعايشت الموسيقى بشكل أنها أصبحت جزءا لا يتجزأ مني، أجد في الحوار مع إرث موسيقي مختلف متعة كبيرة جدا، بل أشعر بأنها تشبه تماما حوار حضارات غنية بإرثها وموروثها، عالمان مختلفان يجتمعان معا على حياة واحدة وفي زمان واحد ليقدما أو تقدم تلك العوالم إن كانت أكثر من اثنين اندماجا خاصا. وإن كنت سأتحدث عن أكثر من تجربة قمت بها من خلال الحوار الموسيقي، فإنني اليوم سأركز حواري حول مفهومي لأنواع الحوار وكيفية عملي عليه، كأنموذج لحوارات الموسيقى. مع متعة محاورة حضارات مختلفة، تبرز متعة جميلة غالبا في حوار الشرق للشرق، أو لنقل، كما في حالتي حوار العود مع العود، وهو حوار يقوم على جماليات خاصة تستمد روحها أساسا من الشرق، وتلون الحوار صعودا وهبوطا، من هذا المنطلق كان بداية تأسيسي لبيت العود العربي، مرتكزا على أساسين، خلق عازفين متمرسين كـ»صوليست» يقفون منفردين أو مجتمعين على خشبة المسرح لتأدية مهارات عزفية عالية التكنيك، وفي الوقت نفسه مرتكزة على أساس متين من فهم ثقافي واع لموسيقى الشرق، وفي الأساس أيضا فكرة «عولمة العود» من خلال إعادته إلى مقدمة المسرح بلا حاجة لـ»حاشية»، عود منفرد يؤدي وحده «حفلته» بلا استعانة بصوت أو آلات أخرى، وفي الحوار مع إرث ثقافي مختلف يؤدي دورا رئيسيا في المشهد الكامل للحوار، هذا فهمي «لعولمة العود» الذي أردته فهمًا واسعا لا يخصني وحدي، بل يشمل عازفين كثيرين، سواء تخرجوا من بيت العود العربي أو أتوا من خلفية أخرى.

وأذكر على سبيل المثال حوارا «جدلا» بين عازفي عود بارعين ومتشربين عميقين للتراث الموسيقي الشرقي، هما الصديق مارسيل خليفة الذي سأتوقف عند تجربته في مقالات مقبلة والصديق شربل روحانا، كان الحوار «الجدل» بينهما حوارا ذكيا ووقادا، متنقلا بسرعة بين حالات روحية مختلفة، ترسم جدلا حقيقيا وحوارا مفتوحا بين عودين متمرسين وذكيين. في حوار العود، وأعود إلى تجربتي الشخصية، أسست أوركسترا بيت العود العربي، التي كانت أحيانا تشتمل على أكثر من ثلاثين عازفا وعازفة، كلهم بارعون وأغلبهم تبوأ مراكز متقدمة في صفوف عازفي العود في العالم. قامت الأوركسترا في الأساس على خط متوازن وتوزيع هارموني بين الأعواد، حوار يعتمد على تعدد الأصوات والأدوار وتجتمع فيه أعواد كثيرة، ليعود عود حاضر من بين الأعواد ويأخذ خط مبادرة ارتجالية من قلب روح المجموعة، ويعاود التسليم مرة أخرى. من هذه الأوركسترا توزع وولد الكثير من الأوركسترات أو الفرق الصغيرة لعازفين تخرجوا وحملوا آلاتهم في مختلف بقاع العالم. منهم من أسس خطا خاصا جمع بين العود والصوت كحازم شاهين من أوائل خريجي البيت، ومنهم من ذهب ليؤسس عالما مغايرا كمحمد ابو ذكري، أو ليدرس التوزيع الاوركسترالي العالمي ويغني به ويطور كنهاد السيد، أو يؤسس لنفسه فرقة ويحمل هم التدريس أيضا كشيرين التهامي وغيرهم كثير، لكنني أتحدث عن أوائل من تخرجوا من البيت، على أن أعود في مقالات مقبلة أيضا للحديث عن بعض تجارب خاضوها. دائما ما تركز الحوار بين الحضارات على العود بوصفه الشرق حاملا بين أوتاره ذلك التاريخ العميق الذي يبدو أحيانا للآخر تاريخا غريبا كأنما يضوع بأسرار مختلفة، ففكرة الآخر عنا قبل أن يعرفنا قد لا تتعدى فكرة شهرزاد، وهي تسرد الحكايات لألف ليلة وليلة. العود اليوم أصبح حاضرا في مختلف مهرجانات العالم، بوصفه آلة حداثية تستطيع أن تحاور مختلف الأجناس الموسيقية الأخرى، وفي مقال مقبل وقفة لي مع «أوركسترا الشرق» التي جمعت بها أكثر من سبعين عازفا عالميا على آلات مختلفة من الشرقين الأقصى والأدنى، ووقفة أيضا مع « أمنا الأرض» مشروعي الذي ما زال مستمرا منذ سنوات طويلة.

bottom of page