top of page
Search

خارج الموسيقى… في العميق منها

حاولت كثيرا أن أكتب عن الموسيقى وحدها، لكنني طيلة الوقت أقع تحت مشاعر تتنازعني، أحيانا أستطيع أن أحول الألم كله إلى قطعة موسيقية، لكن المقطوعة نفسها تظل بالنسبة لي ذاكرة مؤلمة مهما رقت. المعاناة والحزن والألم كلها مدارات تشبه تماما السلالم الموسيقية بحدتها أو رقتها وبسطوتها أو بساطة حضورها.

الكائن البشري عبارة عن عجينة لكل المخاضات التي يمر بها وتمر به، لا شيء أبدا يذهب من غير أن يترك أثرا ما، وهناك ما يذهب تاركا خلفه جرحا نازفا ويظل نزيفه مستمرا وجرحه لا يندمل. الموسيقى خلاصة لكل حالات الوعي واللاوعي، الظاهر والدفين، الحي والذي يبدو ميتا ولكنه يتوارى في نقطة عميقة من اللاوعي. قبل أيام قليلة كانت الذكرى المروعة لضرب ملجأ العامرية في العراق إبان الغزو الأمريكي، أرسل لي صديق عبر «الواتس أب» المقطوعة «مقطوعتي» عن العامرية كأنما يذكرني وينبش الجرح مجددا، استمعت للعامرية، أصوات الأطفال وصراخهم، أجسادهم التي احترقت والتصقت على الجدران شاهدا على ما فعلته الإنسانية بالإنسانية، واستعدت لوحة صديقي التشكيلي أياد الجلبي، التي أراها كل يوم على جدار غرفة الجلوس في منزلي، تلك اللوحة التي توقفت عند يوم عيد الميلاد، الأحمر يملأ كل زاوية فيها، فيما تتناثر هدايا السماء التي تحمل الموت، ومن بعيد أيضا تلوح صورة بابا نويل لتملأ اللوحة نفسها، كانت اللوحة أيضا توقف الزمن عند لحظة الموت الإنساني الفادح. على جدار آخر، جدار أبيض، تقف لوحة سوداء تشكل صفعة مؤلمة، صفعة كأنما تضرب رجاء الروح كلها، هناك لوحة للفنان الكبير الراحل شاكر حسن آل سعيد احترقت أطرافها، أحرقها بأنامله قبل أن يرسم عليها بالمزيد من الأسود، لوحة توقف الزمن عند لحظة موت أبدية، كأنما ترسم خريطة جديدة للعالم، وتشير بالأسود إلى كل شيء. تذكرت أيضا المجازر الكثيرة، الصور التي تخلط ضحكة طفل بدمه، الزمن المتشبث بلعبة طفلة، الصرخة المتيبسة في فم أم تموت، تذكرت عشرات الصور، لا بل مئات الصور القاتلة التي فردت أجنحتها كلها بلؤم طائرة حديدية تجوب السماء فترعب الأرض. أمسكت بعودي ووجدتني أعزف العامرية، كأنما أعزف مقامات موت بشرية كاملة، وكنت في هذه اللحظة أرى جدران الملجأ، وأسمع لعب الأطفال قبل أن يقتحم الموت الأبواب والجدران.

ذاكرة تنوء بآلام كثيرة، ومع هذا تريد أن تفتح لها سجلا في دفاتر الحياة الباسمة، ولن أقول الضاحكة. أتوقف عن العزف فجأة لأستدير إلى حلبجة، الأجساد الممدة، والموت الصارخ الذي يشير بإصبع الاتهام للانسانية جمعاء، وأعبر بذاكرة الألم إلى مجزرة سبايكر، المقابر الجماعية المنتشرة في كل أرجاء العراق، وغيرها وغيرها، أبدأ من جديد بهدر أوتار العود كأنني أعلن موت العالم أجمع. في الموسيقى كما في الحياة، الألم يتمدد عبر سلالم الموسيقى، تتصاعد وتيرته لتهدأ قبل أن يفيض بركانها. الألم حالة من حالات «الاحتدام» الموسيقي، بمعنى آخر هي حالة من حالات التحريض، ولكن الدنيا تتسع لحالات كثيرة بوسعنا أن نحلم بها وأن نمسكها حتى لو بأحلامنا، ومع هذا يتشبث واقعنا بالألم كمادة رئيسية للعيش، ففي كل يوم نفتح أعيننا عليه وننام عليه، كأنما هو قدر الموسيقي العربي أو الكاتب أو الفنان أن يرسم ويظل يرسم الموت اليومي ويحتدم بصوره، كأنما قدر الإنسان العربي المبدع أن يظل يدور وسط احتفالات هستيرية للموت والقتل، كأنما عليه أن يتلفت فقط وهو يقرأ شواهد الموت الكثيرة التي ملأت كل شيء، وقبل أن تملأ المدافن ملأت الأرواح. كنت قررت أن أكتب عن الموسيقى وحدها، وأن أخاطب عبر هذا الحيّز أرواح الموسيقى لا غيرها، ومع هذا تظل الألوان التي لطخ الأسود كل شيء فيها تقف مثل برج عال يذكرنا دائما بالانهيارات السريعة للحيوات الجميلة، جدران سوداء تقف أمامي مشرعة نوافذها على الألم، ومع كل هذا السواد، أحاول أن أفتح نافذة صغيرة لشمس قد تُكمل يوما ما فرحة طفل بلعبته، ولأجل هذا الغد على الموسيقى أن تظل مثل أصابع رشيقة لمن يحرك الدمى بالخيطان خلف المسرح، على الموسيقى أن تداعب بأناملها الأسود الكثيف لتنفتح كوة صغيرة تدخل منها الشمس، حتى لو كانت شمس صغيرة بحجم الكف بوسعها أن تصبح وطنا للأمل يسكنه الكثيرون.

الموسيقى بيت ووطن لأمل قد لا نراه ولا نشعر به، لكنه في أعماقنا يتسع ليملأ الحدائق حتى لو كان السواد قد غطى أغلبها.

bottom of page