top of page
Search

عبد الحليم حافظ… «العندليب» الذي توزّع فينا ولم يرحل

في بدايات اهتماماتي الموسيقية كنت أحفظ أغاني الفنان الراحل عبد الحليم حافظ، وأعيد الغناء مرات ومرات، وكنت أجمع صبيات الحي وصبيته لأغني لهم ما حفظت من أغان، وكان أكثر ما يداعب إحساسي بالفرح والنشوة أن أرى دموع الفتيات وهي تتساقط من عيونهن بينما يسمعنني أغني للعندليب الأسمر.

رحلة طويلة من حياتي كان بطلها عبد الحليم حافظ الذي استطاع بأغانيه أن يدخل كل مدينة وكل شارع وكل بيت، اسمه ارتبط باسم نزار قباني، ليس لأنه غنى من أغاني الشاعر الراحل، بل لأن عبد الحليم ونزار كانا معا يشكلان ثنائيا جميلا لعصر الحب.

نعم، عصر الحب، ذلك العصر الذي كانت فتياته لا ينمن إلا وتحت وسائدهن قصائد نزار قباني وأغنيات عبد الحليم حافظ.

عبد الحليم صاحب مشروع فني وليس مجرد مغنٍ أحبه الناس على امتداد الوطن العربي، ومشروعه تلخص بأغنية معاصرة كانت تعدّ في حينها نقلة لشكل الأغنية، وما كانت عليه قبله، فقد وجد شكلا جديدا، على الرغم من كونه مؤديا لألحان غيره، لكن رؤيته للشكل الذي يود أداءه قاده إلى اختياراته التي غيّرت مسار الأغنية بالجمل اللحنية والغنائية القصيرة والواضحة، التي يمكن تداولها عبر العامة غناء.

شكّل هذا منعطفا في الأغنية العربية وأصرّ عليه عبد الحليم حافظ حتى أصبح بصمة متميزة في عالم الأغنية، وقاد معه فريق عمل من الشعراء والملحنين يحققون أحلامه ورغباته، يختصمون ويختلفون، ولكن في النتيجة كان العمل يخرج كما يريده هو، كانت لديه القدرة على الوصول باحترام إلى غاياته الفنية، التي أثبتت عبر الزمن أنها كانت مخلصة ومهمة في عمله وللأغنية العربية. اهتمامه بشكل الفرقة الموسيقية ومضمونها وعازفيها وأدواتها، كان استكمالا للشكل الذي حلم به وحققه، ويعود الفضل إليه في انطلاقة الفرقة الماسية وذيوع صيتها ودقتها في تنفيذ الأعمال الفنية الطويلة. امتلك عبد الحليم حافظ ذكاء المثقف فأعانه ذلك على اختياراته للنصوص الشعرية، ولم يتوانَ عن أخذ النصيحة والآراء من جيل من الكتاب والصحافيين الكبار فكان يشعر كل واحد منهم بأنه هو الصديق الأوحد والأقرب والأصدق، فكسبهم بالتالي جميعا وأخذ المشورة الجيدة منهم وأصبحوا يروجون لعمله.

وحرص فناننا على الجودة وعلى الجديد المتميز قاده إلى أساليب اعتبرها البعض مآخذ عليه وعلى شخصيته، ولكن المحب يفعل كل شيء من أجل محبوبته، وعبد الحليم كانت لديه محبوبة وحيدة هي الأغنية الجديدة والمؤثرة والقادرة على أن تعيش طويلا، فهو يعمل وعينه على الحاضر والمستقبل. وبهذا شكّل عبد الحليم حافظ حالة متوهجة مثل نبع دافق بالحب ومؤثر في الجميع. إذا اختلف البعض حول مساحة حنجرته فلن يختلفوا حول تجربته وصدقه حتى في التمثيل.

مطربنا يتبنى الكلمة ويتبنى الجملة اللحنية حتى يشعر المتلقي بأنه خالقها ومبدعها، فتصبح جزءا من ملامحه وجزءا أيضا من ملامح مستمعه، وكل حالة حب كان عبد الحليم يريد طرحها ننسى ما قبلها ونصدق ما جاء فيها، حتى لو كانت تتنافى مع ما سبق من غنائه. فهو المؤدي الحقيقي أو المثال على شكل المؤدي الحقيقي، وبلا شكّ عبد الحليم حافظ ترك إنجازا فنيا فيه الكثير من الجديد ومن الجودة ومن الأعمال النافذة الى القلب والعقل والروح مع الحفاظ على الشكل الفني الذي كان يريده لنفسه وبتصاعد. وقلّ ما نجد مغنيا استطاع أن ينجز لونا فنياً من حنجرته فقط، من دون أن يكون هو الملحن والشاعر.

بحثه عن الكلمة الجديدة والمعنى دفع بالبعض إلى إلغاء شعراء من الوجود والقول إن عبد الحليم هو الذي كان يكتب ولا وجود لفلان أو فلان، إنما هي أسماء لشعراء يتستر خلفها، وليس غريبا بعد كل هذا أن تبقى الجماهير تقتني تسجيلاته وتجتمع عبر الإنترنت في نوادي محبيه وتحيي ذكراه في كل أرجاء الوطن العربي.

كان العندليب الأسمر يصحو معنا كل صباح فندندن أغانيه ونترنم معه بكلمات كانت عندما يغنيها تصبح له وحده، إذ أنه استطاع أن يمنح كل كلمة معنى خالصا يخصه. رحلة كفاح وألم وعذاب، لكنها رحلة حب ونجاحات متكررة وكثيرة تلك التي عاشها العندليب الراحل عبد الحليم حافظ.