نصير شمّه: أعلّم طلابي أحلام اليقظة والصرامة مع الذات
ولد زرياب الصغير أو نصير شمّه ابن الكوت العراقية، المقيم في ألمانيا حالياً، من رحم العود، تخيّله ورسم حياته انطلاقاً من أوتاره. ينطق عوده بهمسه وصراخه. ينتفض معه كلما وجد ضيماً أو ظلماً، ويحلّق معه حين يرنو إلى الرحيل بحثاً عن أفق جديد. يعزف ليحيا العراق وكل الوطن العربي. يرى في الموسيقى حاجة إنسانية وليس ترفاً، إذ تؤرقه الإنسانية التي ينحدر مستواها يوماً بعد يوم. لقد استطاع أن يعبّر عن حالة الإنسان عموماً والعربي خصوصاً من خلال مقطوعاته الموسيقية. لم يكتف بكونه سيداً للعود بل آثر تعليم الشباب تقنياته وخباياه. بارع بتقنيته التي تمرّس بها وهي العزف بيد واحدة والتي طوّرها من أجل الأشخاص مبتوري الأطراف. أنشأ بيوت العود في أكثر من دولة عربية، ولم يكتف بالموسيقى بل انخرط في العمل الإنساني وكسر حصار بلده من خلال "طريق الزهور" وحالياً يعمل على "ألق بغداد".

هارفارد بزنس ريفيو: كيف كانت طفولة نصير مع الموسيقى؟
نصير: كانت طفولتي مليئة بأحلام اليقظة. كنت طفلاً في الخامسة من عمره، عيناه تلمعان على الدوام على سدّ الكوت وهو من أهم سدود العراق. كنت أتأمّل تدفق المياه الشديد الغزارة في ذاك الوقت، كما كنت أتأمل حركة الأسماك وحريتها ورقصها والفرح. كنت أشعر بكمية الخير الكبيرة جداً المتدفقة من تحت بوابات السد ومع هذا التدفق كانت أحلامي تتدفق وتتوالد. كنت أراها كأقواس تسلم لمستقبل أغرى تفاصيله. أحلامي قادتني بالضرورة إلى تلمس الخطوات لتحقيقها ومتابعة كيفية بناء الشخصية وكيفية التعامل مع المعطى الثقافي الذي سيكون المرتكز الأساسي لأي شكل فني أريد أن أقدم نفسي من خلاله في المستقبل سواء في الموسيقى أو الرسم أو الشعر أو المسرح، وكلها من اهتماماتي. الموسيقى كانت في الصدارة وتأخذ الحيّز الأساسي وبعد ذلك بدأت المحاولة في البحث عمن يستطيع تعليمي العود. كان من المستحيل إيجاد عود يتناسب مع حجم طفل السادسة، وصلت إلى الحادية عشرة من عمري وأنا أبحث عن أول الخيط، إلى أن دخل معلم الموسيقى في المدرسة حاملاً العود وشعرت أن هذه اللحظة هي لحظة الولادة الحقيقية. بدأ الأستاذ يراقب تعليمي كون العود كبير مقارنة بالطفل الصغير، وفيما بعد عندما أسست بيوت العود صنعت أعواداً للأطفال الطلبة في الخامسة والسادسة من أعمارهم.
ما هو الدافع للعلاقة المبكرة مع آلة العود دون سواها من الآلات؟
كنت أرى العود كواحد من أحلامي، ولم أكن أرى أية آلة موسيقية أخرى على الإطلاق، مع أني فيما بعد تعلمت العزف على البيانو لكنني لم أجد نفسي في أي يوم من الأيام إلا محتضناً آلة العود. اليوم وبعد قراءات كثيرة في علوم مختلفة منها الباراسيكولوجي وعلم الجينات وغيرها، أستطيع القول أن هذه العلاقة هي استكمال لجينة ظهرت في سومر أو أكاد أو آشور أو بابل أو نينوى في العراق وأنا امتداد لهذه الجينات، إذ إن هناك غرابة أن تجد طفلاً في الخامسة من عمره يحلم بآلة لم يرها. وهذا في الحقيقة دفعني للعمل على تحفيز طلابي على أن يحلموا وهم يقظون، وأن يفتحوا أعينهم ليتأملوا أين يجدون ذواتهم وهوياتهم وكيف يبحثون عن طرق واقعية لتحقيقها، إذ لا يجدي اللف والدوران في الفن لأنه يحتاج صرامة في التعامل مع الذات ودقة في تنظيم الوقت ويحتاج صبراً ومراساً طويلين ويحتاج إلى تأنٍ. العمل في الفن لا يقبل البخل ولا التسرع، ويجب التأني في الوقت والتأسيس لتكون الصورة الفنية التي تخرج من المبدع فيما بعد، إذا كان مبدعاً، متعددة الأبعاد.
من أطلق عليك لقب زرياب وماذا أضاف لك هذا اللقب؟
كان زرياب أحد الهواجس التي تشغلني فأنا مؤسسة ثقافية أو حالة حضارية. لم يكن زرياب موسيقياً، الأمر الذي فتح أمامي آفاقاً وأسئلة، وأنا أقرأ عن حياته، حول ماهية الفنان وكيف يمكن أن يلعب دوراً ريادياً في الكثير من الأشياء بما فيها العطر واللباس والثقافة والنظافة والتأسيس. لم يكن زرياب موسيقياً عادياً، فهو أول من وضع قائمة طعام مختومة في الأندلس، ثم أسس في الأندلس أول معهد للموسيقى في تاريخ أوروبا منذ ألف سنة. وكان يقترح الألوان التي تلبس نهاراً وتلك التي تلبس ليلاً وكذلك العطور وأوقاتها، كما أنه مؤسس طريقة تنظيف الملابس بالملح، وهو من اقترح قصات الشعر والغرة وقد جربها على ابنه، كما أقام الحمامات والصالونات النسائية والرجالية وأشياء أخرى. لذلك فإن زرياب هو حالة حضارية كبيرة جداً، ولم يكن من السهل أن يقال عن طفل في الرابعة عشرة من عمره كان يعزف في باريس أنه "زرياب الصغير"، وكان هذا عنواناً في إحدى الصحف الفرنسية الرئيسة في ذلك الوقت. عندها شعرت بالرعب، وذلك لتخوفي من أن يكون الناس لا تعرف من هو زرياب أو أنهم يعتقدون أنه مجرد عازف عود فقط، أو أنهم اعتبروني جديراً بتحمل المسؤولية للمستقبل، الأمر الذي جذب انتباهي إلى أهمية التمرين المتواصل لعشر ساعات يومياً في وقت كان أصدقائي يلعبون كرة القدم ويرتادون السينما. أعتبر أن الدقائق الأربع عشرة التي عزفتها كانت أول خطوات تلمس بداية طريق الموسيقى.
شكّلت أول فرقة موسيقية في العام 1984… ما هي شروط إدارة الفرقة الموسيقية الناجحة؟
إدارة الفرق الموسيقية الناجحة تحتاج أولاً إلى الإلمام بعلوم الموسيقى بالقراءة السريعة والكتابة والتوزيع الآلي الهارموني والشخصية القيادية القادرة على لملمة عدد كبير من الموسيقيين. على كل عازف أن يملأ مكانه، وإذا كان القائد عازفاً عليه أن يملأ عيون أعضاء الأوركسترا كي تنفذ أوامره لمصلحة العمل وعليهم أن يكونوا مقتنعين موسيقياً به وأن يستمعوا إليه، كل هذه الأسباب تلعب دوراً في نجاح أي قائد موسيقي.