top of page
Search
Admin

نصير شمّه: أعلّم طلابي أحلام اليقظة والصرامة مع الذات

ولد زرياب الصغير أو نصير شمّه ابن الكوت العراقية، المقيم في ألمانيا حالياً، من رحم العود، تخيّله ورسم حياته انطلاقاً من أوتاره. ينطق عوده بهمسه وصراخه. ينتفض معه كلما وجد ضيماً أو ظلماً، ويحلّق معه حين يرنو إلى الرحيل بحثاً عن أفق جديد. يعزف ليحيا العراق وكل الوطن العربي. يرى في الموسيقى حاجة إنسانية وليس ترفاً، إذ تؤرقه الإنسانية التي ينحدر مستواها يوماً بعد يوم. لقد استطاع أن يعبّر عن حالة الإنسان عموماً والعربي خصوصاً من خلال مقطوعاته الموسيقية. لم يكتف بكونه سيداً للعود بل آثر تعليم الشباب تقنياته وخباياه. بارع بتقنيته التي تمرّس بها وهي العزف بيد واحدة والتي طوّرها من أجل الأشخاص مبتوري الأطراف. أنشأ بيوت العود في أكثر من دولة عربية، ولم يكتف بالموسيقى بل انخرط في العمل الإنساني وكسر حصار بلده من خلال "طريق الزهور" وحالياً يعمل على "ألق بغداد".

هارفارد بزنس ريفيو: كيف كانت طفولة نصير مع الموسيقى؟

نصير: كانت طفولتي مليئة بأحلام اليقظة. كنت طفلاً في الخامسة من عمره، عيناه تلمعان على الدوام على سدّ الكوت وهو من أهم سدود العراق. كنت أتأمّل تدفق المياه الشديد الغزارة في ذاك الوقت، كما كنت أتأمل حركة الأسماك وحريتها ورقصها والفرح. كنت أشعر بكمية الخير الكبيرة جداً المتدفقة من تحت بوابات السد ومع هذا التدفق كانت أحلامي تتدفق وتتوالد. كنت أراها كأقواس تسلم لمستقبل أغرى تفاصيله. أحلامي قادتني بالضرورة إلى تلمس الخطوات لتحقيقها ومتابعة كيفية بناء الشخصية وكيفية التعامل مع المعطى الثقافي الذي سيكون المرتكز الأساسي لأي شكل فني أريد أن أقدم نفسي من خلاله في المستقبل سواء في الموسيقى أو الرسم أو الشعر أو المسرح، وكلها من اهتماماتي. الموسيقى كانت في الصدارة وتأخذ الحيّز الأساسي وبعد ذلك بدأت المحاولة في البحث عمن يستطيع تعليمي العود. كان من المستحيل إيجاد عود يتناسب مع حجم طفل السادسة، وصلت إلى الحادية عشرة من عمري وأنا أبحث عن أول الخيط، إلى أن دخل معلم الموسيقى في المدرسة حاملاً العود وشعرت أن هذه اللحظة هي لحظة الولادة الحقيقية. بدأ الأستاذ يراقب تعليمي كون العود كبير مقارنة بالطفل الصغير، وفيما بعد عندما أسست بيوت العود صنعت أعواداً للأطفال الطلبة في الخامسة والسادسة من أعمارهم.

ما هو الدافع للعلاقة المبكرة مع آلة العود دون سواها من الآلات؟

كنت أرى العود كواحد من أحلامي، ولم أكن أرى أية آلة موسيقية أخرى على الإطلاق، مع أني فيما بعد تعلمت العزف على البيانو لكنني لم أجد نفسي في أي يوم من الأيام إلا محتضناً آلة العود. اليوم وبعد قراءات كثيرة في علوم مختلفة منها الباراسيكولوجي وعلم الجينات وغيرها، أستطيع القول أن هذه العلاقة هي استكمال لجينة ظهرت في سومر أو أكاد أو آشور أو بابل أو نينوى في العراق وأنا امتداد لهذه الجينات، إذ إن هناك غرابة أن تجد طفلاً في الخامسة من عمره يحلم بآلة لم يرها. وهذا في الحقيقة دفعني للعمل على تحفيز طلابي على أن يحلموا وهم يقظون، وأن يفتحوا أعينهم ليتأملوا أين يجدون ذواتهم وهوياتهم وكيف يبحثون عن طرق واقعية لتحقيقها، إذ لا يجدي اللف والدوران في الفن لأنه يحتاج صرامة في التعامل مع الذات ودقة في تنظيم الوقت ويحتاج صبراً ومراساً طويلين ويحتاج إلى تأنٍ. العمل في الفن لا يقبل البخل ولا التسرع، ويجب التأني في الوقت والتأسيس لتكون الصورة الفنية التي تخرج من المبدع فيما بعد، إذا كان مبدعاً، متعددة الأبعاد.

من أطلق عليك لقب زرياب وماذا أضاف لك هذا اللقب؟

كان زرياب أحد الهواجس التي تشغلني فأنا مؤسسة ثقافية أو حالة حضارية. لم يكن زرياب موسيقياً، الأمر الذي فتح أمامي آفاقاً وأسئلة، وأنا أقرأ عن حياته، حول ماهية الفنان وكيف يمكن أن يلعب دوراً ريادياً في الكثير من الأشياء بما فيها العطر واللباس والثقافة والنظافة والتأسيس. لم يكن زرياب موسيقياً عادياً، فهو أول من وضع قائمة طعام مختومة في الأندلس، ثم أسس في الأندلس أول معهد للموسيقى في تاريخ أوروبا منذ ألف سنة. وكان يقترح الألوان التي تلبس نهاراً وتلك التي تلبس ليلاً وكذلك العطور وأوقاتها، كما أنه مؤسس طريقة تنظيف الملابس بالملح، وهو من اقترح قصات الشعر والغرة وقد جربها على ابنه، كما أقام الحمامات والصالونات النسائية والرجالية وأشياء أخرى. لذلك فإن زرياب هو حالة حضارية كبيرة جداً، ولم يكن من السهل أن يقال عن طفل في الرابعة عشرة من عمره كان يعزف في باريس أنه "زرياب الصغير"، وكان هذا عنواناً في إحدى الصحف الفرنسية الرئيسة في ذلك الوقت. عندها شعرت بالرعب، وذلك لتخوفي من أن يكون الناس لا تعرف من هو زرياب أو أنهم يعتقدون أنه مجرد عازف عود فقط، أو أنهم اعتبروني جديراً بتحمل المسؤولية للمستقبل، الأمر الذي جذب انتباهي إلى أهمية التمرين المتواصل لعشر ساعات يومياً في وقت كان أصدقائي يلعبون كرة القدم ويرتادون السينما. أعتبر أن الدقائق الأربع عشرة التي عزفتها كانت أول خطوات تلمس بداية طريق الموسيقى.

شكّلت أول فرقة موسيقية في العام 1984… ما هي شروط إدارة الفرقة الموسيقية الناجحة؟

إدارة الفرق الموسيقية الناجحة تحتاج أولاً إلى الإلمام بعلوم الموسيقى بالقراءة السريعة والكتابة والتوزيع الآلي الهارموني والشخصية القيادية القادرة على لملمة عدد كبير من الموسيقيين. على كل عازف أن يملأ مكانه، وإذا كان القائد عازفاً عليه أن يملأ عيون أعضاء الأوركسترا كي تنفذ أوامره لمصلحة العمل وعليهم أن يكونوا مقتنعين موسيقياً به وأن يستمعوا إليه، كل هذه الأسباب تلعب دوراً في نجاح أي قائد موسيقي.

ما الهدف من إنشائك بيت العود في مصر والإمارات؟ هل يمكن أن نشهد بيوتاً للعود في كل الدول العربية؟

وما الذي يحول دون تحقيق هذه الفكرة؟فكرة بيت العود الذي أسسته بداية عام 1999 في القاهرة في ظل تعاون كبير مع الراحلة الدكتورة رتيبة الحفني الأم والأخت العزيزة وطبعاً وزارة الثقافة ودار الأوبرا المصرية ثم في العام 2008 في أبوظبي وفي 2011 في الإسكندرية وفي بغداد عام 2018 والآن نستعد للخرطوم في السودان مطلع العام المقبل، ومستمرون طالما هناك طلب من دولة عربية أو غير عربية. ندرس جدية الموضوع ونسعى لتوفير مدرّسين من خريجي بيوت العود لينطلق العمل. طلابنا منتشرون والحمد لله في العالم وأغلبهم ناجحون ولديهم فرق ويقومون بالتدريس، ما وسّع مساحة الجمال وحوّل حياة الشباب إيجاباً. وهذا بحد ذاته جزء من رسالتي بفتح آفاق للناس من خلال سماعهم لموسيقى جميلة وحضورهم عرضاً موسيقياً جميلاً ومؤلف موسيقي جيّد أو كتاب عن الموسيقى. كل هذا في النهاية يؤدي إلى حالة حقيقية وكبيرة ربما تصبح أحد عناصر التغيير في المجتمعات نحو السلام الحقيقي الإنساني، بين الإنسان وروحه أو بينه وبين محيطه وقبوله شخصيته والسعي إلى تغييرها نحو الأفضل. يمكن أن تجعل الموسيقى الحياة أجمل إذا تأسست في داخل سليم.

قدّمت قراءات موسيقية لعدد من القصائد، إلى أين وصلت في هذا المشروع؟

بدأ موضوع الشعر عندي مبكراً وما زال في داخلي نصف شاعر وهذا ما يترك بي مساحة من المخيلة. رمزيّة الموسيقى مرتبطة بعلاقتي بالشعر وبحبي الحقيقي للشعر ولقراءتي لكل أنواعه من القصيدة العظيمة التي كانت في فترة ما قبل الإسلام ومن الخطأ تسميتها الجاهلية لأنني أعتبرها فترة عصف إبداعي وشعري، حينها كانت الكلمة هي الفيديووالخبر والوكالة وكل شيء. كانت قراءة بيت شعر كافية لمعرفة فصل ونسب وقوة وكرم قبيلة كاملة. كان الشعر حمّال أوجه كبيرة في القصيدة ما قبل الإسلام، ثم جاء الإسلام والتغييرات التي حصلت معه وصولاً إلى المتنبي والقرن التاسع عشر والقرن العشرين وبدر شاكر السياب وصلاح عبد الغفور ونازك الملائكة وغيرهم من جيل قصيدة التفعيلة، وبعد ذلك أدونيس وصولاً إلى أنسي الحاج ومحمد الماغوط، وبعد ذلك قصيدة النثر وما بينهما من أسماء وأنواع كلها كانت تستهويني لكن الفكرة ليست في شكل القصيدة بل بقوة استخدام الفكرة داخل التعبير الشعري إذا كان عامودياً أو تفعيلة أو نثراً، هي قوة النص. فعلى سبيل المثال نصوص أمجد ناصر وبعض الشعراء في قصيدة النثر تكاد تضاهي قوة القصيدة العامودية أو التفعيلة بالنسبة إليّ على الأقل وهذا يمنحني مساحة لأستطيع التعبير فيها عن فكرة موسيقية لذلك اشتغلت على شعر المتنبي وكانت أول قطعة موسيقية قدمتها في مهرجان المربد في بغداد عام 1986 وهي بداية علاقتي بالشعراء الكبار أمثال محمود درويش ونزار قباني إذ كانوا حاضرين إلى جانب كوكبة من الشعراء العرب. قدّمت حينها حوار المتنبي والسياب وهي قطعة مدتها 15 دقيقة وموجودة في اسطوانتي الأولى تحت عنوان "عود من بغداد" من معهد العالم العربي، وقد لفتت انتباه الشعراء إلى أن هناك لغة موسيقية تتحدث عن الشعر دون أن تغنيه فكانت مفاجأة بالنسبة إليهم، ثم بدأت في ذاك الوقت بتقديم قصيدتين لبدر شاكر السيّاب "أنشودة المطر" و"غريب عالخليف" وقدمت لهما رؤية موسيقية أداها الفنان المخرج والممثل عزيز خيّو ثم الفنان جواد الشكرجي في اتحاد الأدباء وقدمناها بعد ذلك في تونس في ليالي ثقافية. استمرت التجربة مع أدونيس حيث عرضنا في أكثر من دولة، كان العرض الأول في المعهد العربي في باريس عام 2000 والأخير في أبوظبي عام 2016. هذه التجربة أدخلتني في عالم آخر من مستوى النص وشأنه الفكري والفلسفي الذي يسمى النص الشعري لدى أدونيس. وبعد ذلك قمت بتجربة مع شعر أمجد ناصر وحضوره وقدمناها في المجلس الأعلى للثقافة وكانت ربما من أصعب التجارب في قصيدة النثر أن تقدّم بلحن يكاد يكون كلاسيكياً جداً وبإيقاعات ومقامات عربية، وكأنه تضاد وتناص مع نصوص أمجد ناصر لكن الفكرة نالت نجاحاً كبيراً وكتب عن كل هذه التجارب. كما قدمت ليلة "شهرزاد" مع 12 شاعرة عربية وبحضور الشاعرة فدوى طوقان رحمها الله في مدينة سوسة. قدمت العديد من التجارب الشعرية وما زلت أرى أن مساحة العمل وسط الشعر مازالت بكرًا لدى الموسيقيين ولم يستفيدوا منها كثيراً.

ماذا عن قراءاتك الموسيقية للفنون التشكيلية؟

في أرشيف تلفزيون بغداد عام 1986 و1987 قراءة موسيقية لثلاثين لوحة لأهم رسّامي العراق. كانت مدة القراءة ثلاث دقائق والعزف كان مباشراً أمام لوحة للفنان ثم قدمت معرض قراءة موسيقية لمعرض جميل حمودي في بغداد وفي تونس بحضور شاكر حسن آل سعيد تحت عنوان "كونسرت داخل معرض" وتجاربي وعلاقاتي بالتشكيليين ما زالت كبيرة وما زالت هناك أفكار من الممكن أن ترى النور قريباً.

متى أسست مؤسسة "طريق الزهور" التي تعنى بعلاج وتعليم الأطفال العراقيين داخل وخارج العراق… ومن يهتم بها مباشرة؟

وكيف تدير هذه المؤسسة؟

بدأ عملي في "طريق الزهور" بعد أيام من وقف إطلاق النار في العام 1991 وكنت أيامها في الخدمة الإلزامية مدة سنتين. بعد تسريحنا من الجيش بدأت بحملة لجلب أدوية للعراق توزّع مجاناً وبعد ذلك بدأت بالاهتمام بالأطفال المتضررين والمشوّهين وبدأت الحملة دون أن يكون لها اسم، كانت مجرد جهود أردت من خلالها أن أساعد شعبي وأهلي وهذا ما فعلته خلال انتفاضة فلسطين الأولى عام 1988 في عمّان، وبعد ذلك دخلنا في مرحلة الحصار الطويل والظالم وقد اشترك العرب فيه والدول المجاورة لاسيما إيران ثم تركيا، فكان لا بدّ من أن يكون هناك ما يعين الناس. بدأت بعمل جهد كبير حول هذا الموضوع وعالجنا أطفالاً مع الجسر إلى بغداد من روما بالتعاون مع اليسار الإيطالي ثم مع الاتحاد الاشتراكي في المغرب وكان الصديق والشاعر محمد الأشعري رئيس اتحاد كتّاب المغرب قبل أن يصبح وزيراً. قمنا بجولة في مدن كثيرة وكان معنا الطيب الصديقي رحمه الله وكانت الجولة مخصص ريعها لأطفال العراق ولعلاجهم وهكذا بدأت تكبر العملية إلى أن صار تأسيس جمعية لزاماً بعد أحداث سبتمبر، وقد بات من الصعوبة تحصيل وتحويل أموال بدون وجود جمعية، وهكذا بدأنا بالعمل. أدير الجمعية عبر متطوعات يعملن بإخلاص لهذه الفكرة ومعظمهن عراقيات يعشن قي دول مختلفة منها الإمارات العربية المتحدة والهند وأميركا وانكلترا والاتصالات مستمرة يومياً. في هذه الأيام نواجه مشكلة حقيقية كون عدد الأطفال المحتاجين لعمليات قلب مفتوح زاد بشكل أكبر من قدرتنا فأصبح علينا ديون كبيرة للمستشفى قي بانفلور والديون باسمي ولم يعد لدي القدرة لتسديدها. اليوم عملنا مجمّد إلى حين تسديد هذه الديون. لكن للأسف خلال هذه الفترة مات عدد من الأطفال ممن كانوا ينتظرون العلاج وهذا يؤلمني بشكل كبير لكن ما باليد حيلة.

حركت أول وفد طبي لكسر الحصار عن الشعب العراقي عام 1997… ماذا عن اليوم؟

لديّ هاجس وحيد منذ سنين ألا وهو الابتعاد عن السياسة وعن الحكومات والحكام وأن أعمل من أجل الناس وهذه هي سياستي منذ البداية ولم تتغيّر. أما بالنسبة إلى ما يتعلق بكسر حصار أو إدخال أدوية فهو أولوية ولا يمكن الابتعاد عنها. اصطحبت الوفد الأول لكسر الحصار على العراق من مصر وكان محملاً بأطنان من الأدوية. قدمت أول حفل في مصر في العام 1997 في نقابة الصحافيين من أجل هذا الأمر وكان اسم العراق في ذلك الوقت يشكل خطراً على أي شخص يذكره لأن العلاقات كانت سيئة جداً بين العراق ومصر على الصعيد السياسي وبدأت بإطلاق النداء الأول، كان المخرج يوسف شاهين وخالد يوسف وخالد النبوي من بين الحاضرين الى جانب الصحافيين علي السيد وكل هذه الوجوه أعرفها من العراق لماذا لم نسمع منكم صوتاً واحداً يقول أنا مع الشعب العراق. اتركوا الحكومة وأنا غير متفق معها لكن الشعب العراقي يموت ولم أر أي رد فعل منكم، فسألني شاهين عما يمكن فعله على الملأ، فقلت يمكنك أن تقول أنك في زيارة لأكاديمية الفنون الجميلة وأعلن استعداده كما الكثيرين وسجلنا الأسماء وشكلنا أول وفد تحت عنوان "الملائكة تموت في العراق" وضم الوفد أربعين جراحاً أجروا عمليات لمدة سبعة أيام والوفد الثاني هم شكلوه، أما الوفد الثالث فكان أن وزير الصحة المصري استقل طائرة وذهب لإجراء عمليات وفك الحصار من جهة مصر وبدأت العلاقات تعود بشكل طبيعي شيئاً فشيئاً ولأن الظروف تغيّرت، هذا دور قد يبدو مبالغاً فيه لكن كل الأطراف ما زالت على قيد الحياة ويمكن أن تروي ما حدث. هذا الوفد بدأ بخرق حقيقي للحصار على الشعب العراقي وشكّل حالة كبيرة في بغداد والعراق ومنح دفعاً للحياة وأعطى أملاً في إمكانية الانتهاء من المعاناة التي ابتدعتها أميركا ومن معها بالحصار، وبدأت تسير الأمور وحدها. أوقدت الشرارة وتوجهت الى عملي في علاج الأطفال.

ما أهمية تعيينك سفيراً للسلام من قبل اليونسكو عام 2017، وماذا أنجزت من خلال هذا اللقب؟

لديّ أربعة ألقاب أولها سفير منظمة اللاعنف الدولية، وسفير اليونسكو فنان السلام، ثم سفير الهلال الأحمر العراقي ثم الصليب الأحمر الدولي والهلال. كل هذه جاءت كتثمين للجهود التي بذلتها خلال السنوات الماضية ولم تأت لتكليفي بدور في المستقبل، بل جاءت بناءً على ما تم إنجازه. لكن فيما يتعلق باليونسكو واللاعنف أسست فريقاً بدأ بأخذ دورات عن اللاعنف في العراق، وبدأنا بعمل سلسلة من المحاضرات والدورات في لبنان في جامعة اللاعنف وفي العراق وهم مجموعة من كتاب العراق لاسيما كتاب الأعمدة المؤمنون باللاعنف بشكل حقيقي وأصبح لديهم تأطير منهجي في هذا الموضوع وستكبر الدائرة من خلال عقد مؤتمر كبير للاعنف مطلع العام المقبل. وفي اليونسكو عملي هو التعليم والثقافة والفنون من خلال بيوت العود وفي عروضي وفي الحوار مع الآخر من خلال الموسيقى عبر تجميع موسيقيين من كل القارات وعملهم سوياً من أجل السلام العادل الذي لا يهضم حق أي طرف. سننجز في المرحلة الحالية مسرح اليونسكو في وسط بغداد القديمة التاريخية. كان المكان محروقاً وأعدنا تأهيله وسيكون مسرحاً لكل الفنون. العمل متواصل في كل الاتجاهات، وبالنسبة إلى الهلال الأحمر والصليب الأحمر الدوليين قمت بحملات تبرع بالدم في بيوت العود وأثمرت وزادت الوعي حول أهمية التبرع بالدم، وهناك أفكار كثيرة تتعلق باليونسكو مثلاً الباب الوسطاني وعمره 1,260 سنة في بغداد وهو آخر أبواب بغداد التاريخية، فقد أنجزنا المخططات لهذا الباب ليصلح ضمن مبادرتي "ألق بغداد" لتحسين صورة المدينة وجوهرها وشوارعها وساحاتها العامة الحادية والعشرين وقد أعدنا تصميمها وتنفيذها بتبرعات من عراقيين ومن رابطة المصارف العراقية الخاصة وجمعنا 27 مصرفاً وتبرّع وكل مصرف بـ 300 ألف دولار وضعت تحت إشراف البنك المركزي بطلب مني. لا تزال هذه الأموال تصرف على استكمال بقية الساحات. في يوم بغداد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل ستفتتح كل ساحات "ألق بغداد" وهي بمثابة تغيير حقيقي في شوارع بغداد والساحات وما يجاورها وهناك بنى تحتية ونصب وأعمال فنية إبداعية لنحاتين عراقيين ومصممين ومهندسين. أردنا أن نحرك عجلة العمل لدى العامل العراقي في كل المجالات وهناك أكثر من ستة آلاف يد عاملة في مبادرة "ألق بغداد" حتى اللحظة والعمل متواصل وسيشمل متاحف جديدة تبنى في العراق وغيرها.

جربت ثقافات وعملت في دول مختلفة فكيف انعكس هذا على موسيقاك وإبداعاتك؟

تجوّلت وعشت في دول عدة منها عمّان وتونس وأبوظبي وباريس وبرلين وفي مصر أمضيت 17 عاماً، كل هذه الدول أعطتني وأعطيتها الكثير. أعطتني جزءاً من عصبها الثقافي المهم جداً وأعطيتها إنجازاً وطلاباً وحفلات وعروضاً وأشياء كثيرة وكنت في كل هذه الدول فاعلاً ثقافياً بالإضافة إلى حياتي ودراستي في بغداد. للأسف، الوطن العربي طارد لكفاءات أبنائه، مهما كان لدى الإنسان اسم وقدر وصبر، في حين أنه مستورد لكفاءات غربية. لذلك مع كل ما حققته كانت الأجواء طاردة بشكل أو بآخر لأسباب مختلفة، مرة بسبب الغضب على البلد الأم، ومرة بسبب الدين أو وجهة النظر. وهذا لا يحصل في الدول الغربية فحين يحصل الإنسان على إقامته يبدأ حياته ويدفع ضرائبه وبعد خمس سنوات يحصل على الجنسية ويحق له أن يصبح رئيساً في ألمانيا أو في أي بلد آخر من دون الاعتماد على اللجوء. يجب أن يرجع هذا الأمر في الوطن العربي لأننا خسرنا كفاءات مهولة ومن الضروري نشر هذا الكلام كما هو لأنني أقول هذا الكلام وأنا محب لوطني ومحب للعراق. أمشي في الشوارع وأفكر بالعراق والدول العربية، المشكلة هي أنه يجب أن تكون هناك حقوق للمواطنة وواجبات كذلك، وهذه الحقوق لا يمكن أن تُلغى لغضب أي مسؤول أو لاختلاف في وجهات النظر. هذا ما دفع بنا للعيش في الغرب. هواي شرقي وعربي وثقافي لكنني شعرت أنني أعاقب مرة لأن زوجتي سورية، ومرة لأن أصلي عراقي. أما الأشقر ذو العينين الزرقاوين من أي بلد أتى حتى لو كانت الدولة وما زالت تنتهك أي شيء في بلدك هو مرحّب فيه بينما الجميع يحاولون التخلص من أبناء بلدهم. نجد اليوم أن أكبر عدد من الأطباء العرب في انكلترة وكذلك بالنسبة للعلماء والأطباء في أميركا وكندا. يجب أن يعاد النظر في هذا إذا كنا نطمح إلى مستقبل في العالم العربي بالنسبة إلى الثقافة والرياضة والعلم والطب. علينا إعادة الكفاءات والتخلّص من فكرة محاسبة فلان بسبب أصله أو دينه. يجب أن ينتهي زمن العنصرية الذي نعيشه اليوم وأن ينتهي حقيقة وفي الجوهر وليس من خلال الشعارات فقط. رؤساء الدول يتخذون قراراتهم بينما المؤسسات الداخلية من شرطة ومخبارات سرية لديهم دولة أخرى داخل الدولة، لا علاقة لهم بما يصدر من قرارات. يجب أن يتغير الأمر ويجب التوصل إلى انسجام بين خطاب الدولة وبين الوزارات الداخلية في العالم العربي. يكفي الهدر الذي حصل على مستوى السنوات الماضية، يجب أن يحاسب الإنسان على احترامه للقانون وأهميته ونجاحه في مجال عمله. لماذا ينجح العرب والأفارقة في الغرب على سبيل المثال؟ أين الخلل؟ الخلل في النظام. الغرب يدفع الإنسان نحو النجاح والعكس صحيح في العالم العربي. يجب أن تنتهي وتتغيّر هذه السياسة.

كيف تأثرت بالصوفية في موسيقاك ولماذا اخترتها وكيف اكسبتك قلوب الجمهور؟

الصوفية هي أحد الحلول لكل مشاكل منطقتنا لأنه من المستحيل رؤية صوفي عنيف أو قاتل أو مفجر لنفسه أو يلقي حرمات على الآخرين بمزاجه نتيجة لفكر متطرف. الصوفية تلعب في منطقة بنفسجية بعيدة جداً عن أي شكل من أشكال ردود الفعل التي يرتكبها البشر كأخطاء، لذلك يتمنى الإنسان لو يستطيع أن يكون صوفياً لكنه إذا لم يكن قادراً فعلى الأقل "تشبهوا بالكرام إن لم تكونوا مثلهم" عبر تتبّع سلوكهم وأخلاقهم وزهدهم بالحياة. لا يجب أن يركض الإنسان باتجاه أشياء دنيوية وهو من الممكن أن يرحل في أي جزء من الثانية. الزهد في الحياة في أشياء كثيرة يعلّم الإنسان قول الحق في كل زمان ومكان. لا يمكن أن يكون الصوفي مؤذياً، فكيف لا أتأثّر في هذا الجمال ونحن في عالم ضمن أديان تتحدّث جميعها عن السلام. السلام موجود في التصوّف لدى المسيحية والبوذية واليهودية والإسلام، مع اختلاف التسمية، ويصبّ في المعنى نفسه، اي التخلي والتحلي. التخلي عمّا في الدنيا والتحلّي بعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى.

أخبرنا عن ليل نصير شمة وموهبتها؟

ليل ابنتنا الوحيدة أنا ولينا وهي بين شاعرة وموسيقي، ولدت في جو مليء بالجدل الفكري والثقافي والموسيقي وعلاقاتنا هي ضمن هذا التوجّه الثقافي والإبداعي فهي مزيج من كل هذا وفي الوقت نفسه تريد أن تستقلّ بشخصيتها. لا تريد أن تشبه أباها ولا أمها تريد أن تكون هي، لكنها بالتأكيد فيها مني ومن لينا الكثير وبالسر تشبهنا تماماً وتحب أن تكون مثلنا، أما في العلن فهي لا تحب هذا. الجيل الحالي توجهاته مفهومة وأتمنى أن يكون لليل مستقبل أحسن من مستقبلنا. أتمنى لها ولكل أولاد وبنات جيلها أن يعيشوا حياة جميلة دون هزات لذلك نحاول إبعادهم عن هذا العالم المليء بالمفاجآت ليستقروا ذهنياً وعاطفياً ونفسياً. كل حياتي منذ الولادة وحتى اليوم عبارة عن حروب وحصار ومشاكل وسجن. نريد إبعاد أولادنا عن هذا العالم. نريدهم أن يعيشوا حياة طبيعية وأن يفكروا بهدوء. لدى ليل جانب خيري كبير فهي تحب المساعدة بشكل كبير، هذا الجيل مهووس بالماركات لكنها يمكن أن تتبرع بلحظة بمعطف وحيد لديها طلبته منذ مدة وانتظرت لتلبسه. لا أستطيع منعها بالطبع لأنها ترى ما يفعل والدها، وتتصرف بالطريقة نفسها ولكن بتلقائية. نالت جائزة السنة الماضية من المدرسة في التعاون مع الآخرين وتقديم الخدمات والمساعدة للاجئين وغيرهم. لم أبذل جهداً لتعليمها هذه الخاصيّة. تتمتع ليل بصوت جميل وموهوبة موسيقياً. لديها تطلعات كثيرة، لكنها ما زالت تتلمّس طريقها. نحن صديقان نمارس الرياضة سوياً، ونسافر معاً دون لينا أحياناً بطلب من والدتها، كي أمضي وقتاً أكبر معها لأنني دوماً مشغول وفي حالة سفر، ولكي تثق بي وتمضي وقتاً معي وتحكي لي ما تريد لأن سن الرابعة عشرة والخامسة عشرة ليس سهلاً، يحتاج هذا العمر إلى عناية كبيرة. أشعر بأن ابنتي تتمتع بعقل جميل وأحب النقاش معها، ولم يحصل بيننا أي صدام إلى اليوم في مواضيع كثيرة مع أنها تنتمي إلى جيل مختلف عن جيلي ولديها تطلعات مختلفة عن جيلنا لكن الحل الوسط الذي تلعبه الأم، وهذا دور لينا كمثقفة وأم هو دور عظيم جداً، وهي سبب التوازن الحقيقي لغيابي وفي الوقت نفسه لأي خلل يمكن أن يحدث بسب اختلاف الآراء أو الهوّة بين الجيلين.

bottom of page