بيت العود، 27 عاماً من العمل والعطاء
- نصير شمّه
- 8 hours ago
- 3 min read

عندما بدأنا فكرة بيت العود قبل 27 عامًا، كانت تبدو للكثيرين مجرد "حلم رومانسي" أكثر منها مشروعًا قابلاً للحياة.
أن تؤسس مؤسسة متخصصة بآلة واحدة، في زمن كانت المعاهد تبحث عن الشمول لا عن التخصص، لم يكن أمرًا سهلاً.
أكبر تحدٍّ واجهناه هو إقناع الجهات الرسمية والجمهور بأن الاستثمار في العود هو استثمار في هوية كاملة، في ذاكرتنا الموسيقية وفي مستقبل أجيال قادمة، وليس ترفًا فنيًا.
واجهتنا صعوبات مالية وإدارية ولوجستية، لكن الإيمان العميق برسالة المشروع، وإصرار الطلبة الأوائل، واحتضان بعض المؤسسات الثقافية العربية، كل ذلك حوّل التحديات إلى حافز للإستمرار، حتى أصبح بيت العود اليوم مدرسة وتجربة يُشار إليها بفخر في العالم العربي وخارجه.
ومحطات بيت العود كثيرة، لكن هناك محطات أعتبرها مفصلية:
• افتتاح بيت العود في القاهرة، بوصفه النواة الأولى التي أثبتت أن الفكرة قابلة للاستمرار، وأننا قادرون على تخريج عازفين محترفين خلال سنوات قليلة.
• تأسيس بيت العود في أبوظبي، والذي نقل التجربة إلى مستوى مؤسساتي أوسع، ورسّخ حضور العود في المشهد الثقافي الخليجي والعربي.
• امتداد التجربة إلى بغداد والخرطوم ثم الرياض، حيث تحوّل بيت العود من مدرسة واحدة إلى شبكة بيوت تشارك المناهج والرؤية ذاتها وتخاطب بيئات ثقافية مختلفة.
أما المحطة الأجمل فهي رؤية خريجي بيت العود اليوم يقفون على المسارح العربية والعالمية، ويقودون مشاريعهم الخاصة، ويصبح بعضهم أساتذة في البيوت نفسها؛ هنا تشعر أن الفكرة لم تعد مرتبطة بشخص، بل تحوّلت إلى تيار ومدرسة.
سرّ بيت العود أنه لم يتعامل مع الهوية بوصفها "متحفًا"، بل ككائن حيّ قادر على التطوّر. حافظنا على أصول المقام والإيقاع، وعلى جماليات المدرسة العربية في العزف، لكننا في الوقت نفسه فتحنا الباب للحوار مع الموسيقى العالمية، ومع التجارب الجديدة في التأليف والتوزيع.
نحن نعلّم الطلبة أن يكونوا أوفياء للجذور، لكن غير خائفين من الأجنحة. لذلك ترى خريجي بيت العود يعزفون التراث باحترام، ويقدّمون أعمالاً معاصرة بروح عربية واضحة، دون أن يذوبوا في موجة الموضات الموسيقية العابرة.
منذ اليوم الأول قررنا أن بيت العود ليس "صفًّا دراسيًا" فقط، بل بيتًا بالمعنى الحقيقي للكلمة. الطالب يدخل ليتعلّم الموسيقى، لكنه يخرج وهو يحمل شبكة من العلاقات الإنسانية، وخبرة في العمل الجماعي، وإحساسًا عميقًا بالمسؤولية تجاه مجتمعه.
نحن نهتمّ بسيرة الطالب كإنسان بقدر اهتمامنا بتقنيته كعازف؛ نرافقه في تحوّلاته، ندعمه نفسيًا، ونفتح له فضاءات للحوار والثقافة والقراءة، وتشجّع البيوت على الاختلاط بين الجنسيات المختلفة، فيتعلّم الطلبة أن الموسيقى جسر بين الشعوب لا مجرد "مهنة". هذه
الروح العائلية، الممزوجة بانضباط أكاديمي، هي ما يمنح بيت العود طابعه الخاص.
أقرب إنجاز إلى قلبي هو رؤية طلبة الأمس وهم يصبحون اليوم أعمدة للمشهد الموسيقي العربي؛ بعضهم أساتذة في بيوت العود، وبعضهم قادة فرق، وآخرون مؤلفون وعازفون في أهم المسارح العالمية.
أن ترى شابًا أو شابة كانت تحمل العود بخجل في أول درس، ثم تقف بعد سنوات على مسرح كبير بثقة وهدوء وتقدّم موسيقاها للعالم، هذا هو الإنجاز الحقيقي.
بيت العود في جوهره مشروع لصناعة الإنسان قبل صناعة العازف، وكل قصة نجاح فردية هي بالنسبة لي أعظم من أي جائزة أو تكريم.
اليوم يمكن القول بثقة أنّ بيت العود ساهم في إعادة الاعتبار لآلة العود بوصفها أداة قيادية في المشهد الموسيقي، لا مجرد آلة مرافقة للغناء. كثير من الخريجين أصبحوا مؤلفين وقادة فرق، وأدخلوا العود في حوارات جديدة مع الجاز، والموسيقى الكلاسيكية،
والموسيقى المعاصرة.
على مستوى "صناعة العازفين"، قدّم بيت العود نموذجًا لتعليم متكامل يبدأ من التقنية وينتهي بالفكر والذائقة، وهو ما خلق جيلًا جديدًا من العازفين يمتلك مهارة عالية ووعيًا فنيًا وإنسانيًا، وقادرًا على حمل الراية في العقود القادمة. تأثير هذا الجيل بدأ يظهر بوضوح في المهرجانات العربية والدولية، وفي تسجيلاتهم وأعمالهم الأصلية.
بيت العود مشروع حيّ لا يتوقف.
من بين ما نخطط له في المرحلة القادمة:
تطوير تجربة بيت العود في الرياض لتكون نموذجًا متكاملاً يجمع بين التعليم والحفلات والبحوث والمهرجانات.
إطلاق منصة "بيت العود أونلاين" لتتيح الدراسة عن بُعد مع أساتذة البيوت المختلفة، كي نصل إلى الطلبة الذين لا تسمح لهم ظروفهم بالحضور إلى فروعنا.
تعزيز التعاون بين بيوت العود في العواصم العربية، وتحويلها إلى شبكة واحدة تتشارك المناهج والبرامج والفعاليات.
طموحنا أن يصبح بيت العود، خلال السنوات القادمة، مرجعًا عربيًا وعالميًا في تعليم آلة العود وفلسفة الموسيقى العربية، وأن نواصل صناعة الأمل من خلال صناعة الموسيقيين.
والهدف الكبير أن يكون لبيت العود فروع في أمريكا وأوروبا وآسيا.












Comments